نعم في كل سلطة ازدواجية رهيبة: الموت والحياة. وآية ذلك أن الحجز المعنوي الذي يتعادل مع الحجر الصحي رغم الفارق، هو مظهر لواقع أشمل يمكن تسميته بالحصار: إذا كان الحجر الصحي هو، بطريقة غير مباشرة، التخويف من الموت، فإن الحصار، بطريقة مباشرة تماماً، هو الناتج الطبيعي للحجز المعنوي... وخصوصاً عندما يتحول الخوف من الموت إلى عصيان حياة أو عصيان في الحياة، لا فرق.
إن الشعور بالموت هاجس ضمني لا يترك مخلوقاً إلا ويرعبه، وعندما يصبح التخويف به، ولو على سبيل الإيحاء الضمني، فإنه يتحول إلى لعبة.. قد يراد بها أنك إذا ارْتَدَعَت من التخويف نَجّيْناك، وإذا لم ترعو ابتليناك، وإذا حكّمتَ العقل أجزنا صواب عقلك الحاكم، وإذا لم يكن لك، في جميع الأوضاع الممكنة حُكْم، فاعلم أن اللعبة لم ترضِ طبعك، ولم تتآلف مع وضعك، بل ولم تجد فيها ما يسليك عن حياتك، أو عن الحياة التي أنت فيها الآن حتى مللت قهرها وحصارها وما توهمك به في كل نُعْرَة تفكير.
أما الشعور الميت فهو حصيلة الحياة التي أنت فيها. نحن نعلم أن التفكير في الموت يضجرك، فالأقوم لك أن ترى في الحياة شعوراً بالحصار. إننا نحاصرك بالأوامر والنتائج والبيانات، ولا ذات لك الآن إلا بالشعور الميت الذي تتعادل فيه المطالب والأمنيات والشهوات مع المنع الذي لا يتعادل، هذا القاسي الحاد الظالم، إلا مع نفسه. فالمنع هو أن أمنعك وكفى، لا نقصان ولا زيادة فيه إلا بالقتل. ومعنى هذا أن الحصار بالأوامر مَنْعٌ، فلا تخرج لأنك ممنوع، بالقانون أو بالاستثناء، من الخروج. الخروج عصيان، وعن النص هو ما ليس مكتوب فيه أصلاً. وأما النتائج فهي أمامك بالجملة: موتى يسقطون من جراء فيروس غامض لا يتحسر عليهم أحد بسبب المنع، ولم يعد من المجدي أن يعرف الميت من أية قارة خرج هذا الغامض وتوسد رئتيه فنام. إحصائيات تتراقص فيها الأرقام بالأعداد التي لم يعد يجدي معها حساب. فكيف لا يكون لك في المنع منجاة؟ وأما الشهوات فقد انقلبت على ذوقك. دعنا من أنك أصبحت الطاهي الحاذق لكل الوصفات، فالمقصود أن الشهوات في ظل الحصار تحولت إلى مُنَغّصات. كنتَ تعلم أنَّ لا أكل بدون مذاق، فجاء المنع مع ميتة الشعور وقلب أكلك إلى كلأ... لا مذاق له كأطعمة الدواب. حالة أنت من السأم زادها التبرم معاناة وألماً، جوع في الروح ولا لذة تُستطاب.
عليك، إذن، في أيام الحصار أن تُسَلّم في عاداتك وإلا أخضعناك للجَبْر. وها أنت ترى، مع موات الشعور، أنك ربما أصبحت جثة لا تحييها إلا الحركة المحسوبة في فضاء محصور. وها أخصّ العواطف التي جعلت منك مِن قبلُ، حسب سُلَّمِ القيم، فرداً مطواعاً، موالياً، رافضاً معارضاً سياسياً، حنوناً، إصلاحياً أو ثورياً إلخ... أقول: تحوَّلْتَ بها الآن، وتحَوَّلَتْ معك، إلى أخَصِّ فرد لا يرى إلا نفسه حصراً، في انفعالاتها وشؤونها، على مسافة من نفسه لا مع الآخرين، وذلك في ظل حصار ليس فيه إلا تلك الازدواجية الرهيبة بين الحياة أو الموت قوامها المنع. أوصيك بالمسافة فهي عاقبة المحاصرين، يقول الحصار بلسان الخبير.
source https://www.sayidaty.net/blogs/%D8%AE%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%B1%D9%8A/%D9%83%D9%84%D9%91%D9%8F-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D8%B2%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%8A%D8%A9